الإثنين, ديسمبر 23, 2024
Google search engine
الرئيسيةالأدبرحلة في أروقة التاريخ ﴿۱﴾: حين وقف سفير قيصر الروم بين يدي...

رحلة في أروقة التاريخ ﴿۱﴾: حين وقف سفير قيصر الروم بين يدي أمير المؤمنين معاویہؓ بن أبي سفيان

تتبدل دوائر الزمان، وتتغير معالم الوجود البشري. يرتقي الضعيف، ويهوي القوي، ويتعالى المتواضع، وينكسر المتكبر. هكذا هو الزمان، متقلب لا يثبت على حال.

يُشهد التاريخ على طِباع القدر الإنساني المتقلبة. فكما يسير الزمنُ قدماً، كذلك تتبدل أحوال الأفراد والمجتمعات. وصعودُ الإمبراطوريات وسقوطها، وميلادُ الأفكار وموتها، وتطور الفكر البشري، كلها تذكيرٌ بأنَّ مجرى التاريخ ليس مُسَطَّراً بالحجر.

————-

جلس الملك، زاهياً متوجاً، على عرشه البديع، محط أنظار الحاضرين. كان تاجه المرصع بالجواهر يزيده بهاءً. وقف النبلاء والوزراء، ثوبهم أنيق، رؤوسهم خاضعة. وكان القصر مزيناً باللوحات الرائعة والسجاد الفاخر، والهواء مشبعاً بعبير نفاذ. وبينما يقدم السفراء الأجانب هداياهم، أشرق القمر في السماء، وبرق النجوم كأنها لآلئ متناثرة.

كان ديوان الأمير معاوية بن أبي سفيان يغص بالناس والحركة، مزدحماً بالوجوه الكريمة. الوزراء والمسؤولون منهمكون في شؤون الرعية، والعامة يتوافدون بالشكاوي والطلبات. ضجّت الأروقة بالصخب، وعمّت الحركة في كل مكان. وكان أمير المؤمنين جالساً خلف مكتبه، يطالع الكتب والمراسيل، يدوّن عليها تعليقاته بيده الكريمة.

قال أحد الوزراء لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان: يا أمير المؤمنين، إن القائد سابور الذي استولى على أرمينية قد أرسل سفيره إليك. وكذلك فعل قيصر الروم قسطنطين، فقد أرسل هو الآخر سفيره إليك. وكلاهما يطلبان منك العون والمدد.

 

تدور أحداث هذه القصة في العام السادس والأربعين للهجرة. كان قائد أرميني يُدعى سابور قد استقلّ بجزء من أرمينيا، مُتخلصاً من سيطرة الإمبراطورية البيزنطية. وكان بينه وبين قسطنطين صراعات متكررة، إلا أن الإمبراطورية البيزنطية كانت غالباً الأُقوى. وفي عهد الخلفاء الراشدين، بدأ الفتح الإسلامي لأرمينيا، ولكنها ثارت فيما بعد وانفصلت. ثم في عام ثلاثة وسبعين هجرياً، الموافق لعام 692 ميلادياً، أرسل عبد الملك بن مروان أخاه لاسترداد تلك الأراضي.

 

وفي هذه الأثناء، كان معاوية بن أبي سفيان قد تولى زمام الأمور في الدولة الإسلامية.

في ذلك الوقت، أرسل قيصر الروم قسطنطين سفيره لاندرا، وأرسل القائد سابور سفيره سرجي إلى بلاط أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان. وكان سابور يطلب من معاوية النجدة ضد قسطنطين، وكان قسطنطين أيضاً يطلب منه العون لمواجهة سابور.

 

في بروتوكول دبلوماسي متقن، استقبل أمير المؤمنين معاوية السفيرين تباعاً، فكان لسرجي الشرف أولاً، ثم للاندرا.

فلما رأى سرجي لاندرا، قام احتراماً له. فلما رأى ذلك أمير المؤمنين، غضب عليه قائلاً: ماذا تفعل؟ إذا كان هذا حالك، فكيف يكون حال سيدك؟

قال سرجي معللاً: اعذرني يا أمير المؤمنين، لقد غلبتني العادة.

قال معاوية بن أبي سفيان مخاطباً لاندرا بعنف: ما الذي أتى بك إلى هنا؟

فقال لاندرا: يا أمير المؤمنين، لقد أرسلني ملكي إليك ليطلب منك ألا تستمع إلى هذا المتمرد. إنه خائن. وأنا مبعوث من الملك إليك. لا تجعل الخائن والملك في مكان واحد، ولا تعينه بأي حال من الأحوال.

 

فأظهر معاوية بن أبي سفيان سلطانه، وقال متجبراً: أنتما عدوان لي، فأنا مع من دفع لي الجزية أكثر.

تخيّل ملكاً لمملكة عريقة، عمرها قرون، يطلب العون من مملكة حديثة العهد.

 

فلما سمع لاندرا ذلك، خرج من الديوان مغتاظًا.

وفي اليوم التالي، حضر الاثنان مجدداً. لكن سرجي لم يقم احتراماً للاندرا هذه المرة، بل ظل جالساً. لعلّه أدرك أنهما متساويان في هذا المجلس.

وفي اليوم الذي يليه، عاد لاندرا ليجدد طلبه.

 

فقال معاوية بن أبي سفيان: إن قدمتم لنا الجزية عن مملكتكم، تركناكم على حالكم. وإلا، سنُسلِبكم هذا الامتياز أيضاً.

فدُهش لاندرا من جوابه، ثم قال بتواضع وخوف: أتعني أنكم الأقوياء فقط، وأننا مجرد سراب؟ إن ربنا هو المعين.

ثم استأذن على عجل وخرج.

 

حدث ذلك في مطلع العصر الأموي، تلك الحقبة المشرقة في تاريخ الإسلام. فقد بلغت الدولة الإسلامية في تلك الفترة أوج قوتها واتساعها. استطاع الملوك الأمويون، بفضل حنكتهم السياسية وقوتهم العسكرية، أن يوسّعوا رقعة الدولة الإسلامية، فشملت أراضٍ شاسعة.

يمكننا أن نتخيل عظمة وقوة الدولة الإسلامية في ذلك العصر، إذ امتدت جيوشها من أفريقيا إلى جنوب آسيا، ومن أوروبا إلى آسيا الوسطى. وكانت دمشق، عاصمة الدولة الأموية، أعظم وأجمل مدن العالم. وقد شجع الخلفاء الأمويون الفنون والعمارة والثقافة، فأقاموا القصور والمساجد والحدائق الرائعة.

شهد العصر الأموي نهضة علمية وأدبية كبيرة. فقد حقق العلماء المسلمون إنجازات بارزة في مجالات الرياضيات والفلك والطب. كما امتدت رقعة التأثير الثقافي الإسلامي لتشمل أجزاءً من أوروبا وآسيا. ولذا يُعتبر العصر الأموي من أعظم العصور الذهبية في تاريخ الإسلام.

(كتاب: تاريخ مختصر الدول – الفصل: معاوية بن أبي سفيان)

صهيب الندوي
[Email: Laahoot.Media@gmail.com]

مجلة لاهوت العربية
للتواصل على وسائل التواصل الاجتماعي:
https://www.facebook.com/LaahootArabic

https://x.com/LaaHoot
https://www.youtube.com/@LaaHoot.Arabic

مقالات ذات صلة

التعليقات

2 تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة