الإثنين, ديسمبر 23, 2024
Google search engine
الرئيسيةأحوال القلوبأيام وذكريات: في ذكرى الشيخ عطاء الرحمن المدني – "فإن الموت ميقات...

أيام وذكريات: في ذكرى الشيخ عطاء الرحمن المدني – “فإن الموت ميقات العباد”

الحياة الدنيا زوال، والموت مصير لا مفر منه، يلقاه كل حي. وعندما يرحل رجلٌ صالحٌ، فإن فقدانه خسارة فادحة، إذ يترك فراغًا كبيرًا في قلوب الناس، وتبقى أعماله شاهدة له. فموته ككسوف الشمس، يحجب النور عن الدروب.

  

  • الشيخ عطاء الرحمن مدني (5 يونيو 1934 – 27 سبتمبر 2024)، ذلك العالم الرباني الذي رحل عن دنيانا في 27 سبتمبر 2024، كان قدوة حسنة للجميع. فقد تميز بعلمه الواسع وفهمه العميق للدين، وخلقه القويم وأخلاقه الفاضلة. ترك خلفه إرثًا عظيمًا من العلم والمعرفة.
  • كان عالماً فاضلاً من ولاية بيهار في شمال الهند، قضى فترة من حياته في المملكة العربية السعودية طلباً للعلم. وعند عودته إلى وطنه، ساهم في بناء المجتمع من خلال عمله في العديد من المؤسسات التعليمية والثقافية. كما ترك إرثاً إسلاميًا قيماً من خلال كتبه التي تناولت شتى القضايا الدينية والاجتماعية.
  • أود في هذا المقال أن أسلط الضوء على الجانب الخلقي والتربوي للشخصية التي عايشتها عن قرب، وأبرز تأثيرها الإيجابي في حياتي.

 

كان شتاء عام ألفين يشتد برودةً، فتهب رياحه العاتية لتضرب بكل قوة في كل مكان. ففي الأحياء الفقيرة، كانت هذه الرياح تزيد من معاناة الناس، حيث كانت تهب على أكواخهم المتواضعة، وتدخل إلى بيوتهم البسيطة، محدثةً مزيدًا من البرد والقسوة. وفي الأحياء الغنية، كانت هذه الرياح تحمل معها أحزانًا وأوجاعًا مختلفة، حيث كانت تزيد من شعور الأغنياء بالوحدة واليأس، رغم كل ما يملكون من ثروات.

كان شهر رمضان في ذلك العام يصادف فصل الشتاء، وكانت الدراسة في المدارس تنتهي مع حلول شهر رمضان المبارك. وبعد تخرجي من ندوة العلماء، توجهت إلى دلهي في الثامن من يناير مُرتقبًا الالتحاق بالجامعة الملية الإسلامية. ولأن موعد القبول كان في مايو أو يونيو، ولذا فقد كنت أبحث عن عمل مؤقت لملء هذا الفراغ الزمني.

 

بلغني صديق أن مجلة أردية في شاهين باغ تبحث عن موظف جديد. فما ترددت لحظة وتوجهت إليها في الحال، ووصلت عند الحادية عشرة صباحًا. وهذه كانت أول مرة ألتقي فيها بالشيخ.

كان الشيخ مسؤولاً عن مجلة “رسالة التوحيد” ]پیام توحید[ وكان بحاجة إلى مساعد يكتب على الآلة الكاتبة.

وصلتُ برفقة صديقي إلى مكتب الشيخ، وبدأت المقابلة. كان هناك شخص آخر مع الشيخ يطرح الأسئلة أكثر منه، وقد سألني عما إذا كنت أجيد الكتابة على الآلة الكاتبة. فأجبته بالنفي، وقلت إنني أستطيع أن أتعلّم. فرد عليّ قائلاً: بل نحتاج إلى شخص يجيد الكتابة من الآن.

وفي أثناء المقابلة، طرح الشيخ عليّ بعض الأسئلة الأخرى، ثم قال لي بلطف شديد: ستتعلم بالتأكيد، أليس كذلك؟ فأجبته على الفور: نعم، سأتعلم بالتأكيد.

وفي الحال، أمر الشيخ بتعييني وتزويدي بجهاز حاسوب خاص للتدريب. وقد استغرب الحاضرون من هذا القرار، وتساءلوا عن سبب اختيار شخص لا يجيد الكتابة على الآلة. إلا أن الشيخ أصر على رأيه، ولم يعر انتباهًا لتلك الهمسات، بل وأمر بصرف راتب لي يتناسب مع أهمية العمل والوقت المبذول فيه.

لعلكم تستغربون سبب ذكري لهذا الحادث، لذا سأروي لكم قصة أخرى لتتضح الصورة أكثر.

في عام الألفين وسبعة، قصدتُ مقرّ شركة عريقة بدبي، تحديدًا في منطقة ديرة، لحضور مقابلة عمل. كانت الشركة تبحث عن موظف يجيد اللغة العربية، ويُفضَّل أن يكون ماهرًا في الطباعة على الآلة الكاتبة. وقد استقبلني مدير الموارد البشرية، رجلٌ مثقفٌ حاز على شهادة جامعية من الولايات المتحدة. وعندما سألني عن قدرتي على الكتابة على الآلة، أجبتُه بأنني لستُ متمرسًا في هذا المجال، لكنني سأتعلم ذلك سريعًا. إلا أنه أصرّ على ضرورة وجود خبرة سابقة. وهكذا، فشلتُ في الحصول على الوظيفة.

 

نعود الآن إلى مكتب الشيخ مُجددًا، وفي غضون أيام قليلة، أتقنتُ فن الطباعة على الآلة. عملتُ معه بجدٍ واجتهاد لمدة عامين، استفدتُ خلالهما الكثير. ولكنني اضطررتُ، بسبب ظروف طارئة، إلى ترك هذا العمل الذي أحببته كثيرًا.

كان الشيخ يعلم يقينًا أن قيمة العلم واللغة تفوق كل شيء آخر، وأن الطباعة ليست سوى أمر يسير.

والجدير بالذكر أنني كنت قد تلقيت تعليمي في ندوة العلماء، ولم أكن عضوًا في الجماعة التي كان قائداً بارزاً فيها الشيخ. بمعنى آخر، لم تكن تربطني به أي علاقة سابقة، ولا أي وساطة.

في يوم من الأيام، جاء رجلٌ إلى الشيخ وطلب منه أن يوظف شابًا من خريجي جامعة بنارس ينتمي إلى جماعته. فاستنكر الشيخ هذا الطلب، وبدت عليه علامات الاستياء.

 

وفي إحدى المناقشات، سألت الشيخ إن كان قد كتب أي مؤلفات باللغة الإنجليزية. فأجابني بأن لديه العديد من المقالات والكتيبات التي كتبها باللغة الإنجليزية خلال فترة إقامته الدعوية في أفريقيا.

كان للشيخ سيارة، يقال إن محركها مستورد من إيطاليا. وكنا نتشرف أحيانًا بالجلوس بجانبه فيها.

 

بعد عام، قررتُ الانتقال من الجامعة الملية إلى جامعة جواهر لال نہرو، والإقامة في أحد مساكن الطلاب فيها. وكان مكتب الشيخ يقع في منطقة شاہين باغ.

أخبرت الشيخ بأنني سأنتقل إلى جامعة جواهر لال نہرو، وبالتالي لن أتمكن من الإقامة في شاہين باغ.

 فتساءل الشيخ بقلق: أوه، ثم ماذا؟

 أخبرته بأنني في حاجة إلى العمل، ولكنني أضع الالتحاق بجامعة جواهر لال نہرو على رأس أولوياتي.

ما زلت أشعر بالانفعال كلما تذكرت ذلك الموقف. ظل الشيخ صامتًا برهة ثم أومأ برأسه، وقال: حسنًا، من الآن فصاعدًا، ستأتي يومي السبت والأحد فقط، وستنجز كل مهامك خلال هذين اليومين. وسنوفر لك السكن والطعام هنا، ولن يتغير راتبك. وسأطلب من المسؤول عن هذا المبنى أن يوفر لك كل ما تحتاج إليه.

بعد ذلك، صرت أذهب فقط يومي السبت والأحد، وأنجز كل مهامي وأعود.

تذكّروا أيام دراستكم، وفكّروا في الظروف الصعبة التي يمر بها الطلاب عمومًا، ثم انظروا إلى هذا المعروف الكبير الذي فعله الشيخ.

استمر هذا الوضع لعامين حتى قررتُ الأولوية لتعليمي، واعتذرت للشيخ عن عدم القدرة على الاستمرار. ورغم ذلك، حثني الشيخ على الحفاظ على علاقتنا والزيارة المستمرة.

 

كان جميع سكان المبنى يُلقبون الشيخ بـ “نانا” (الجد من الأم). وأحيانًا، خلال حديثي معه، كان يخرج من فمي لفظ “نانا”، فكان يبتسم أحيانًا باندهاش وأحيانًا مجرد ابتسامة.

في إحدى المرات، أعربتُ عن رغبتي في الكتابة، فشجعني الشيخ على ذلك. وقدمتُ إليه مقالًا، فقام بتصحيحه وتوجيهي، مقدمًا لي نصائح قيمة حول فن الكتابة.

 

كان الشيخ يتقن اللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والأوردية، (أيضًا اللغة البنغالية). ورغم كبر سنه، كان عطوشًا للعلم والمعرفة، مرة كان يبحث عن مجلات تاريخية عربية. وعندما سألني عن ذلك، أرشدته إلى الدكتور ظفر الإسلام خان، ناشر مجلة التاريخ الإسلامي، دون أن أكون متأكدًا من صحة المعلومة. وفي اليوم التالي، ذهب الشيخ إلى الدكتور ظفر وسأله عن المجلة، وعاد ليخبرني بأن الدكتور قد أوقف إصدارها لعدم وجود الكُتّاب في هذا المجال.

كنت أعدّ المجلة وأعرضها عليه، فكان يراجعها بدقة ويُشير إلى الأخطاء اللغوية والإملائية، ويطلب مني تعديلها.

 

الكلام في هذا الموضوع يطول، وكلما كتبتُ وجدتُ المزيد لأضيفه. سأكتفي بهذا القدر.

كانت شخصية الشيخ عميقة كالمحيط، يحمل كل قطرة منها عالمًا بحد ذاته. لقد كان شخصية متكاملة، يمكن القول إن كل جانب من جوانب شخصيته يستحق أن يكتب عنه.

يقول الشاعر:

هو الموت مـا مـنـه ملاذ ومهرب

مـتى حط ذا عن نـعـشه ذاك يركب

نـؤمل آمـالاً ونـرجوا نـتـاجها

وعـل الـردى مما نـرجـيه أقـرب

ونبني القصور المشمخرات في الهوا

وفـي علمـنا أنـا نمــوت وتخرب

 

صهيب الندوي

مجلة لاهوت العربية
للتواصل على وسائل التواصل الاجتماعي:
https://www.facebook.com/LaahootArabic

https://x.com/LaaHoot
https://www.youtube.com/@LaaHoot.Arabic

مقالات ذات صلة

التعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة